فصل: أقسام السجع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.أقسام السجع:

وهو أن السجع قد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

.القسم الأول أن يكون الفصلان متساويين لا يزيد أحدهما على الآخر:

كقوله تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر} وقوله تعالى: {والعاديات ضبحًا فالموريات قدحًا فالمغيرات صبحًا فأثرن به نقعًا فوسطن به جمعًا} ألا ترى كيف جاءت هذه الفصول متساوية الأجزاء حتى كأنها أفرغت في قالب واحد، وأمثال ذلك في القرآن الكريم كثيرة، وهو أشرف السجع منزلة للاعتدال الذي فيه.

.القسم الثاني أن يكون الفصل الثاني أطول من الأول:

لا طولاً يخرج به عن الاعتدال خروجاً كثيراً، فإنه يقبح عند ذلك ويستكره ويعد عيباً.
فمما جاء منه قوله تعالى: {بل كذبوا بالساعة واعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرًا إذا رأتهم من مكان بعيدٍ سمعوا لها تغيظًا وزفيرًا وإذا ألقوا منها مكانًا ضيقًا مقرنين دعوا هنالك ثبورًا} ألا ترى أن الفصل الأول ثمان لفظات، والفصل الثاني والثالث تسع تسع.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة مريم: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا لقد جئتم شيئًا إدًا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا} وأمثال هذا في القرآن كثيرة.
ويستثنى من هذا القسم ما كان من السجع على ثلاثة فقرٍ، فإن الفقرتين الأوليين يحسبان في عدة واحدة، ثم باقي الثلاثة فينبغي أن تكون طويلة طولاً يزيد عليهما، فإذا كانت الأولى والثانية أربع لفظات أربع لفظات تكون الثالثة عشر لفظات أو إحدى عشر.
مثال ذلك ما ذكرته في وصف صديق فقلت الصديق من لم يعتض عنك بخالف، ولم يعاملك معاملة حالف، وإذا بلغته أذنه وشايةً أقام عليها حد سارق أو قاذف، فالأولى والثانية هاهنا أربع لفظات لأن الأولى لم يعتض عنك بخالف والثانية ولم يعاملك معاملة حالف وجاءت الثالثة عشر لفظات. وهكذا ينبغي أن يستعمل ما كان من هذا القبيل وإن زادت الأولى والثانية عن هذه العدة فتزاد الثالثة بالحساب، وكذلك إذا نقصت الأولى والثانية عن هذه العدة، فافهم ذلك وقس عليه.
إلا أنه ينبغي أن تجعله قياساً مطرداً في السجعات الثلاث أين وقعت من الكلام، بل تعلم أن الجواز يعم الجانبين من التساوي في السجعات الثلاث ومن زيادة السجعة الثالثة، ألا ترى أنه قد ورد ثلاث سجعات متساوية في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدرٍ مخضودٍ وطلحٍ منضودٍ وظلٍ ممدود} فهذه السجعات كلها من لفظتين لفظتين، ولو جعلت الثالثة منها خمس لفظات أو ستاً لما كان ذلك معيبها.

.القسم الثالث أن يكون الفصل الآخر أقصر من الأول:

وهو عندي عيب فاحش، وسبب ذلك أن السجع يكون قد استوفى أمده من الفصل الأول بحكم طوله، ثم يجيء الفصل الثاني قصيراً عن الأول، فيكون كالشيء المبتور، فيبقى الإنسان عند سماعه كمن يريد الانتهاء إلى غاية فيعثر دونها.
وإذ انتهينا إلى هاهنا وبينا أقسام السجع ولبه وقشوره فسنقول فيه قولاً كلياً، وهو أن السجع على اختلاف أقسامه ضربان: أحدهما: يسمى السجع القصير، وهو أن تكون كل واحدة من السجعتين مؤلفة من ألفاظ قليلة، وكلما قلت الألفاظ كان أحسن، لقرب الفواصل المسجوعة من سمع السامع، وهذا الضرب أوعر السجع مذهباً وأبعده متناولاً، ولا يكاد استعماله يقع إلا نادراً.
والضرب الآخر: يسمى السجع الطويل، وهو ضد الأول، لأنه أسهل متناولاً.
وإنما القصير من السجع أوعر مسلكاً من الطويل لأن المعنى إذا صيغ بألفاظ قصيرة عز مواتاة السجع فيه، لقصر تلك الألفاظ وضيق المجال في استجلابه، وأما الطويل فإن الألفاظ تطول فيه ويستجلب له السجع من حيث وليس، كما يقال، وكان ذلك سهلاً.
وكل واحد من هذين الضربين تتفاوت درجاته في عدة ألفاظ.
وأما السجع القصير فأحسنه ما كان مؤلفاً من لفظتين لفظتين، كقوله تعالى: {والمرسلات عرفًا فالعاصفات عصفًا} وقوله تعالى: {يأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر} ومنه ما يكون مؤلفاً من ثلاثة ألفاظ وأربعة وخمسة، وكذلك إلى العشرة.
وما زاد على ذلك فهو من السجع الطويل.
فمما جاء منه قوله تعالى: {والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى} وقوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا كل آية يعرضوا ويقولوا سحرٌ مستمرٌ وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمرٍ مستقرٌ} وأما السجع الطويل فإن درجاته تتفاوت أيضاً في الطول، فمنه ما يقرب من السجع القصير، وهو أن يكون تأليفه من إحدى عشرة لفظة، وأكثره خمس عشرة لفظة.
كقوله تعالى: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمةً ثم نزعناها منه إنه ليئوسٌ كفورٌ ولئن أذقناه نعماء من بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرحٌ فخورٌ} فالأولى إحدى عشرة لفظة، والثانية ثلاث عشرة لفظة.
وكذلك قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم}.
ومن السجع الطويل ما يكون تأليفه من العشرين لفظة فما حولها، كقوله تعالى: {إذ يريكهم الله في منامك قليلًا ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليمٌ بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلًا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا وإلى الله ترجع الأمور}.
ومن السجع الطويل أيضاً ما يزيد على هذه العدة المذكورة، وهو غير مضبوط.

.التصريع في الشعر:

واعلم أن التصريع من الشعراء بمنزلة السجع في الفصلين من الكلام المنثور، وفائدته في الشعر أنه قبل كمال البيت الأول من القصيدة تعلم قافيتها وشبه البيت المصرع بباب له مصراعان متشاكلان.
وقد فعل ذلك القدماء والمحدثون، وفيه دلالة على سعة القدرة في أفانين الكلام، فأما إذا كثر التصريع في القيدة فلست أراه مختاراً، إلا أن هذه الأصناف من التصريع والترصيع والتجنيس وغيرها إنما يحسن منها في الكلام ما قل وجرى مجرى الغرة من الوجه، أو كان كالطراز من الثوب، فأما إذا تواترت وكثرت فإنها لا تكون مرضية، لما فيها من أمارات الكلفة وهو عندي ينقسم إلى سبع مراتب وذلك شيء لم يذكره على هذا الوجه أحد غيري: فالمرتبة الأولى وهي أعلى التصريع درجة أن يكون كل مصراع من البيت مستقلاً بنفسه في فهم معناه غير محتاج إلى صاحبه الذي يليه، ويسمى التصريع الكامل، وذلك كقول امرئ القيس:
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل ** وإن كنت قد أزمعت هجراً فأجملي

فإن كل مصراع من هذا البيت مفهوم المعنى بنفسه غير محتاج إلى ما يليه.
وعليه ورد قول المتنبي:
إذا كان مدحٌ فالنسيب المقدم ** أكل فصيحٍ قال شعراً متيم

المرتبة الثانية: أن يكون المصراع الأول مستقلاً بنفسه غير محتاج إلى الذي يليه فإذا جاء الذي يليه كان مرتبطاً به كقول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل ** بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فالمصراع الأول غير محتاج إلى الثاني في فهم معناه، لكن لما جاء الثاني صار مرتبطاً به.
وكذلك ورد قول أبي تمام:
ألم يأن أن تروى الظماء الحوائم ** وأن ينظم الشمل المبدد ناظم

وعليه ورد قول المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ** هو أولٌ وهي المحل الثاني

المرتبة الثالثة أن يكون الشاعر مخيراً في وضع كل مصراع وضع صاحبه ويسمى التصريع الموجه وذلك كقول ابن الحجاج البغدادي:
من شروط الصبوح في المهرجان ** خفة الشرب مع خلو المكان

فإن هذا البيت يجعل مصراعه الأول ثانياً ومصراعه الثاني أولاً، وهذه المرتبة كالثانية في الجودة.
المرتبة الرابعة أن يكون المصراع الأول غير مستقر بنفسه ولا يفهم معناه إلا بالثاني ويسمى التصريع الناقض وليس بمرضي ولا حسن فمما ورد منه قول المتنبي:
مغاني الشعب طيباً في المغاني ** بمنزلة الربيع من الزمان

فإن المصراع الأول لا يستقل بنفسه في فهم معناه دون أن يذكر المصراع الثاني.
المرتبة الخامسة أن يكون التصريع في البيت بلفظة واحدة وسطاً وقافية ويسمى التصريع المكرر وهو ينقسم قسمين: أحدهما أقر حالاً من الآخر فالأول أن يكون بلفظة حقيقية لا مجاز فيها وهو أنزل الدرجتين كقول عبيد بن الأبرص:
فكل ذي غيبةٍ يثوب ** وغائب الموت لا يثوب

القسم الآخر أن يكون التصريع بلفظة مجازية يختلف المعنى فيها، كقول أبي تمام:
فتىً كان شرباً للعفاة ومرتعا ** فأصبح للهندية البيض مرتعا

المرتبة السادسة أن يذكر المصراع الأول ويكون معلقاً على صفة يأتي ذكرها في أول المصراع الثاني ويسمى التصريع المعلق فمما ورد منه قول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ** بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل

فإن المصراع الأول معلق على قوله بصبح، وهذا معيب جداً.
وعليه ورد قول المتنبي:
قد علم البين منا البين أجفانا ** تدمى وألف في ذا القلب أحزاناً

فإن المصراع الأول معلق على قوله تدمى.
المرتبة السابعة: أن يكون التصريع في البيت مخالفاً لقافيته ويسمى التصريع المشطور وهو أنزل درجات التصريع وأقبحها فمن ذلك قول أبي نواس:
أقلني قد ندمت على الذنوب ** وبالإقرار عدت عن الجحود

فصرع بحرف الباء في وسط البيت، ثم قفاه بحرف الدال، وهذا لا يكاد يستعمل إلا قليلاً نادراً.

.النوع الثاني: في التجنيس:

اعلم أن التجنيس غرة شادخة في وجه الكلام، وقد تصرف العلماء من أرباب هذه الصناعة فيه فغربوا وشرقوا، لا سيما المحدثين منهم، وصنف الناس فيه كتباً كثيرة، وجعلوه أبواباً متعددة، واختلفوا في ذلك، وأدخلوا بعض تلك الأبواب في بعض، فمنهم عبد الله بن المعتز، وأبو علي الحاتمي، والقاضي أبو الحسين الجرجاني، وقدامة بن جعفر الكاتب، وغيرهم.
وإنما سمي هذا النوع من الكلام مجانساً لأن حروف ألفاظه يكون تركيبها من جنس واحد.
وحقيقته أن يكون اللفظ واحداً والمعنى مختلفاً، وعلى هذا فإنه هو اللفظ المشترك، وما عداه فليس من التجنيس الحقيقي في شيء، إلا أنه قد خرج من ذلك ما يسمى تجنيساً، وتلك تسمية بالمشابهة لا لأنها دالة على حقيقة المسمى بعينه.
وعلى هذا فإني نظرت في التجنيس وما شبه به فأجرى مجراه فوجدته ينقسم إلى سبعة أقسام: واحد منها يدل على حقيقة التجنيس لأن لفظه واحد لا يختلف وستة أقسام مشبهة.
فأما القسم الأول فهو أن تتساوى حروف ألفاظه في تركيبها ووزنها، كقوله تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} وليس في القرآن الكريم سوى هذه الآية فاعرفها، ويروى في الأخبار النبوية أن الصحابة نازعوا جرير بن عبد الله البجلي زمامه فقال رسول الله: «خلوا بين جرير والجرير» أي دعوا زمامه.
ومما جاء منه في الشعر قول أبي تمام:
فأصبحت غرر الأيام مشرقةً ** بالنصر تضحك عن أيامك الغرر

فالغرر الأولى استعارة من غرر الوجه، والغرر الثانية مأخوذة من غرة الشيء أكرمه، فاللفظ إذاً واحد والمعنى مختلف.
وكذلك قوله:
من القوم الجعد أبيض الوجه والندى ** وليس بنانٌ يجتدى منه بالجعد

فالجعد: السيد، والنبان الجعد: ضد السبط، فأحدهما يوصف به السخي، والآخر يوصف به البخيل.
وكذلك قوله:
بكل فتىً ضربٍ يعرض للقنا ** محيي محلى الطعن والضرب

فالضرب: الرجل الخفيف، والضرب بالسيف في الحرب.
وكذلك قوله:
عداك حر الثغور المستضامة عن ** برد الثغور وعن سلسالها الخصب

فالثغور: جمع ثغر، وهو واحد الأسنان، وهو أيضاً البلد الذي على تخوم العدو.
ثم قال في هذه القصيدة:
كم أحرزت قضب الهندي مصلتةً ** تهتز من قضبٍ تهتز في كثب

بيضٌ إذا انتضيت من حجبها رجعت ** أحق بالبيض أبداناً من الحجب

فالقضب: السيوف، والقضب: القدود على حكم الاستعارة، وكذلك البيض: السيوف، والبيض: النساء، وهذا من النادر الذي لا يتعلق به أحد.
وكذلك قوله:
إذا الخيل جابت قسطل الحرب صدعوا ** صدور العوالي في صدور الكتائب

فلفظ الصدور في هذا البيت واحد، والمعنى مختلف.
وكذلك قوله:
عامي وعام العيس بين وديقةٍ ** مسجورةٍ وتنوفةٍ صيهود

حتى أغادر كل يومٍ بالفلا ** للطير عيداً من بنات العيد

فالعيد: فحل من فحول الإبل، والعيد: اليوم المعروف من الأيام.
وقد أكثر أبو تمام من التجنيس في شعره، فمنه ما أغرب فيه فأحسن، كالذي ذكرته ومنه ما أتى به كريهاً مستثقلاً كقوله:
ويوم أرشق والهيجاء قد رشقت ** من المنية رشقاً وابلاً قصفا

وكقوله:
يا مضغناً خالداً لك الثكل إن ** خلد حقداً عليك في خلده

وكقوله:
وأهل موقان إذ ماقوا فلا وزرٌ ** أنجاهم منك في الهيجا ولا سند

وكقوله:
مهلاً بني مالكٍ لا تجلبن إلى ** حيٍ الأراقم دؤلول ابنة الرقم

ثم قال فيها:
من الردينية اللائي إذا عسلت ** تشم بو الصغار الأنف ذا الشمم

وكقوله:
قرت بقران عين الدين واشتترت ** بالأشترين عيون الشرك فاصطلما

وله من هذا الغث البارد المتلكف شيء كثير لا حاجة إلى استقصائه، بل قد أوردنا منه قليلاً يستدل به على أمثاله.
ومن الحسن في هذا الباب قول أبي نواس:
عباس عباس إذا احتدم الوغى ** والفضل فضلٌ والربيع ربيع

وكذلك قوله:
فقل لأبي العباس إن كنت مذنباً ** فأنت أحق الناس بالأخذ بالفضل

فلا تجحدوني ود عشرين حجةً ** ولا تفسدوا ما كان منكم من الفضل

وعلى هذا النهج ورد قول البحتري:
إذا العين راحت وهي عين على الهوى ** فليس بسرٍ ما تسر الأضالع

فالعين: الجاسوس، والعين: معروفة.
وكذلك ورد قول بعضهم:
وترى سوابق دمعها فتواكفت ** ساق تجاوب فوق ساقٍ ساقا

فالساق: ساق الشجرة، والساق: القمري من الطيور.
وعلى هذا الأسلوب جاء قول بعض المتأخرين، وهو الشاعر المعروف بالمعري في قصيدة قصد بها التجنيس في كثير من أبياتها، فمن ذلك ما أورده في مطلعها:
لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا ** ونحن في حفر الأجداث أحيانا

ثم قال في أبياتها:
تقول أنت امرؤٌ جافٍ مغالطةً ** فقلت لا هومت أجفان أجفانا

وكذا قال في آخرها:
لم يبق غيرك إنساناً يلاذ به ** فلا برحت لعينٍ الدهر إنساناً

ورأيت الغانمي قد ذكر في كتابه باباً، وسماه رد الأعجاز على الصدور خارجاً عن باب التجنيس، وهو ضرب منه، وقسم من جملة أقسامه، كالذي نحن بصدد ذكره هاهنا، فمما روى الغانمي من الأمثلة في ذلك قول بعضهم:
ونشري بجميل الصنع ** ذكراً على طيب النشر

ونفري بسيوف الهند ** من أسرف في النفر

وبحري في شرى الحمد ** على شاكلة البحر

وكذلك قول بعضهم في الشيب:
يا بياضاً أذرى دموعي حتى ** عاد منها سواد عيني بياضا

وكذلك قول البحتري:
وأغر في الزمن البهيم محجلٍ ** قد رحت منه على أغر محجل

كالهيكل المبني إلا أنه ** في الحسن جاء كصورةٍ في هيكل

وليس الأخذ على المعاني في ذلك مناقشة على الأسماء، وإنما المناقشة على أن ينصب نفسه لإيراد علم البيان وتفصيل أبوابه، ويكون أحد الأبواب التي ذكرناها داخلاً في الآخر، فيذهب عليه ذلك، ويخفى عنه وهو أشهر من فلق الصباح.
وربما جهل بعض الناس فأدخل في التجنيس ما ليس منه، نظراً إلى مساواة اللفظ دون اختلاف المعنى فمن ذلك قول أبي تمام:
أظن الدمع في خدي سيبقي ** رسوماً من بكائي في الرسوم

وهذا ليس من التجنيس في شيء، إذا حد التجنيس هو اتفاق اللفظ واختلاف المعنى وهذا البيت المشار إليه هو اتفاق اللفظ والمعنى معاً، وهذا مما ينبغي أن ينبه عليه ليعرف.
ومن علماء البيان من جعل له اسماً سماه به، وهو الترديد: أي أن اللفظة الواحدة رددت فيه.
وحيث نبهت عليه هاهنا فلا أحتاج أن أعقد له باباً أفرده بالذكر فيه.
وأما الأقسام الستة المشبهة بالتجنيس، فالقسم الأول منها: أن تكون الحروف متساوية في تركيبها مختلفة في وزنها، فمما جاء من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم كما حسنت خلقي حسن خلقي» ألا ترى أن هاتين اللفظتين متساويتان في التركيب، مختلفتان في الوزن، لأن تركيب الخلق والخلق من ثلاثة أحرف، وهي الخاء واللام والقاف، إلا أنهما قد اختلفا في الوزن، إذ وزن الخلق فعلٌ بفتح الفاء، ووزن الخلق فعل بضم الفاء.
ومن هذا القسم قول بعضهم: لا تنال غرز المعالي إلا بركوب الغرر واهتبال الغرر وقال البحتري:
وفر الخائن المغرور يرجو ** أماناً أي ساعة ما أمان

يهاب الإلتفات وقد تهيا ** للحظة طرفه طرف السنان

وكذلك ورد قول الآخر:
قد ذبت بين حشاشةٍ وذماء ** ما بين حر هوىً وحر هواء

القسم الثاني من المشبه بالتجنيس، وهو أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير، وإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس.
فمما جاء قوله تعالى: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ إلى ربها ناظرةٌ} فإن هاتين اللفظتين على وزن واحد، إلا أن تركيبهما مختلف في حرف واحد، وكذلك قوله تعالى: {وهم ينهون عنه وينأون عنه} وكذلك قوله تعالى: {ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون} وعلى نحو من هذا ورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقودٌ بنواصيها الخير» وقال بعضهم: لا تنال المكارم إلا بالمكاره.
وقال أبو تمام:
يمدون من أيدٍ عواصٍ عواصمٍ ** تصول بأسيافٍ قواضٍ قواضب

وقال البحتري:
من كل ساجي الطرف أغيد أجيدٍ ** ومهفهف الكشحين أحوى أحور

وكذلك قوله:
شواجر أرماحٍ تقطع بينهم ** شواجن أرحامٍ ملومٍ قطوعها

القسم الثالث من المشبه بالتجنيس، وهو أن تكون الألفاظ مختلفة في الوزن والتركيب بحرف واحد، كقوله تعالى: {والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذٍ المساق} وقوله تعالى: {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا} وكذلك ورد قوله: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده» ودخل ثعلب صاحب كتاب الفصيح على أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، ومجلسه غاصٌ، فجلس إلى جانبه ثم أقبل عليه، وقال: أخاف أن أكون ضيقت عليك، على أنه لا يضيق مجلس بمتحابين ولا تسع الدنيا بأسرها متباغضين، فقال له أحمد: الصديق لا يحاسب والعدو لا يحتسب له، وهذا كلام حسن من كلا الرجلين، والتجنيس في كلام أحمد رحمه الله في قوله يحاسب ويحتسب له وقد جاءني شيء من ذلك عليه خفة الطبع لا ثقل الطبع.
فمنه ما ذكرته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة يتضمن ذكر الجهاد فقلت: وخيل الله قد اشتاقت أن يقال لها اركبي، وسيوفه قد تطلعت أن يقال لها اضربي، ومواطن الجهاد قد بعد عهدها باستسقاء شآبيب النحور، وإنبات ربيع الذباب والنسور، وما ذاك إلا لأن العدو إذا طلب تقمص ثوب إذلاله وتنصل من صحة نصاله، واعتصم بمعاقله التي لا فرق بينها وبين عقاله.
ومن ذلك ما ذكرته في وصف كريم، فقلت: وقد جعل الله حرمه ملقى الجفان، وملتقى الأجفان، فهو حمىً لمن جنى عليه زمانه، وجارٌ لمن بعد عنه جيرانه.
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة، وهو: ولقد استبان الخادم من بركة طاعته ما يعمى عنه غيره فما يراه، ووجد من أثره في صلاح دنياه ما استدل به على صلاح أخراه، فهو المركب المنجي، والعمل المرجو لا المرجي، والمعنى المراد بهداية الصراط المستقيم، وتأويل قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ أليم} ومن ذلك ما ذكرته في أثناء كتاب إلى بعض الإخوان وذلك وصف بعض المنعمين، فقلت: نحن من حسن شيمه وفواصل إحسانه بين هند وهنيدة، ومن يمن نقيبته وأمانة غيبه بين أم معبد وأبي عبيدة.
ومن ذلك ما ذكرته في مطلع كتاب إلى بعض الإخوان، فقلت: الكتب وإن عدها قوم عرضاً من الأعراض، وتقالوها حتى قالوا هي سواد في بياض، فإن لها عند الإخوان وجهاً وسيماً، ومحلاً كريما، وهي حمائم القلوب إذا فارق حميمٌ حميماً، ومن أحسنها كتاب سيدنا... ثم مضيت على هذا النهج إلى آخر الكتاب.
ومن هذا القسم قول أبي تمام:
أيام تدمي عينه تلك الدما ** فيها وتقمر لبه الأقمار

وكذلك قوله:
بيضٌ فهن إذا رمقن سوافراً ** صورٌ وهن إذا رمقن صورا

وكذلك قوله:
بدرٌ أطالت فيك بادرةً النوى ** ولعاً وشمسٌ أولعت بشماس

وكذلك قوله:
كادوا النبوة والهدى فتقطعت ** أعناقهم في ذلك المضمار

جهلوا فلم يستكثروا من طاعةٍ ** معروفةٍ بعمارة الأعمار

وكذلك قوله:
إن الرماح إذا غرسن بمشهدٍ ** فجنى العوالي في ذراه معالي

وكذلك قوله:
إذا أحسن الأقوام أن يتطاولوا ** بلا نعمةٍ أحسنت أن تتطولا

وكذلك قوله:
أي ربعٍ يكذب الدهر عنه ** وهو ملقى على طريق الليالي

بين حال جنت عليه وحولٍ ** فهو نضو الأحوال والأحوال

شد ما استنزلتك عن دمعك الأظع ** ان حتى استهل صوب العزالي

أي حسن في الذاهبين تولى ** وجمالٍ على ظهور الجمال

ودلالٍ مخيمٍ في ذرى الخيم و** حجلٍ معصم في الحجال

فالبيت الثاني والخامس هما المقصودان بالتمثيل هاهنا، والأبيات الباقية جاءت تبعاً.
ومما جاء من ذلك قول علي بن جبلة:
وكم لك من يومٍ رفعت بناءه ** بذات جفونٍ أو بذات جفان

وكذلك قول محمد بن وهيب الحميري:
قسمت صروف الدهر بأساً ونائلاً ** فمالك موتورٌ وسيفك واتر

وهذا من المليح النادر.
ومن هذا القسم قول البحتري:
جديرٌ بأن تنشق عن ضوء وجهه ** ضبابة نقعٍ تحتها الموت ناقع

وكذلك قوله:
نسيم الروض في ريحٍ شمالٍ ** وصوب المزن في راحٍ شمول

وذم أعرابي رجلاً فقال: كان إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوف، يحسد على الفضل، ويزهد في الإفضال.
القسم الرابع من المشبه بالتجنيس، ويسمى المعكوس وذلك ضربان: أحدهما عكس الألفاظ، والآخر عكس الحروف.
فالأول كقول بعضهم عادات السادات سادات العادات، وكقول الآخر: شيم الأحرار أحرار الشيم.
ومن هذا النوع مما ورد شعراً قول الأضبط بن قريع من شعراء الجاهلية:
قد يجمع المال غير آكله ** ويأكل المال غير من جمعه

ويقطع الثوب غير لابسه ** ويلبس الثوب غير من قطعه

وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي:
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ** ولا مال في الدنيا لمن قل مجده

وكذلك قول الشريف الرضي من أبيات يذم فيها الزمان:
أسف بمن يطير إلى المعالي ** وطار بمن يسف إلى الدنايا

وكذلك قول الآخر:
إن الليالي للأنام مناهلٌ ** تطوى وتنشر بينها الأعمار

فقصارهن من الهموم طويلةٌ ** وطوالهن من السرور قصار

وأحسن من هذا كله وألطف قول ابن الزقاق الأندلسي:
غيرتنا يد الزما ** ن فقد شبت والتحى

فاستحال الضحى دجاً ** واستحال الدجا ضحى

وهذا الضرب من التجنيس له حلاوة، وعليه رونق، وقد سماه قدامة بن جعفر الكاتب التبديل، وذلك اسم مناسب لمسماه، لأن مؤلف الكلام يأتي بما كان مقدماً في جزء من كلامه الأول مؤخراً في الثاني، وبما كان مؤخراً في الأول مقدماً في الثاني، ومثله قدامة بقول بعضهم: اشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك.
ومن هذا القسم قوله تعالى: {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} وكذلك ورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «جار الدار أحق بدار الجار» وكتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنه كتاباً، فقال: أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه، فلا تكن بما نلت من دنياك فرحاً، ولا بما فاتك منها ترحاً، ولا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة بطول أمل، وكأن قد، والسلام.
وروي عن أبي تمام أنه لما قصد عبد الله بن طاهر بن الحسين بخراسان وامتدحه بقصيدته المشهورة التي مطلعها:
أهن عوادي يوسفٍ وصواحبه

أنكر عليه أبو سعيد الضرير وأبو العميثل هذا الابتداء، وقالا: لم لا يقول لم يفهم؟ فقال: لم لا يفهما ما يقال؟ فاستحسن منه هذا الجواب على الفور، وهو من التجنيس المشار إليه.
وقد جاءني شيء منه، كقولي في فصل من كتاب يتضمن فتحاً، وهو: فكم كان من افتراع عذرة الحصن من عذرة حصان، وكم حيز به من سنان لحظٍ استرقه لحظ سنان.
وكذلك قولي في صدر كتاب إلى ديوان الخلافة وهو: الخادم يبلغ خدمته إلى ذلك الجناب التي تمطره الشفاه قبلا، وتوسعه العفاة أملا، وترى الخول به ملوكاً والملوك خولاً، وطاعته هي محك الأعمال التي أشير إليها بقوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} وكذلك ورد قولي أيضاً، وهو فصل من تقليد وزير، فقلت: وقد صدق الله لهجة المثني عليه أن يقول إنك الرجل الذي تضرب به الأمثال، والمهذب الذي لا يقال معه: أي الرجال، وإذا وازرت مملكة فقد حظيت منك بشد أزرها، وسد ثغرها، وأصبحت وأنت صدر لقلبها وقلب لصدرها، فهي مزدانة منك بالفضل المتين، معانة بالقوي الأمين.
وأما الضرب الثاني من هذا القسم، وهو عكس الحروف، فهو كقول بعضهم:
أهديت شيئاً يقل لولا ** أحدوثة الفال والتبرك

كرسي تفاءلت فيه لما ** رأيت مقلوبه يسرك

وكذلك قول الآخر:
كيف السرور بإقبالٍ وآخره ** إذا تأملته مقلوب الإقبال

وأجود من هذا كله قول الآخر:
جاذبتها والريح تجذب عقرباً ** من فوق خد مثل قلب العقرب

وطفقت ألثم ثغرها فتمنعت ** وتحجبت عني بقلب العقرب

وإذا قلب لفظ عقرب صار برقعاً.
وهذا الضرب نادر الاستعمال لأنه قل ما يقع كلمة تقلب حروفها فيجيء معناها صواباً.
القسم الخامس من المشبه بالتجنيس، ويسمى المجنب، وذاك أن يجمع مؤلف الكلام بين كلمتين إحداهما كالتبع للأخرى والجنيبة لها، كقول بعضهم:
أبا العباس لا تحسب بأني ** لشيءٍ من حلى الأشعار عاري

فلي طبعٌ كسلسال معينٍ ** زلالٍ من ذرا الأحجار جاري

وهذا القسم عندي فيه نظر، لأنه بلزوم ما لا يلزم أولى منه بالتجنيس، ألا ترى أن التجنيس هو اتفاق اللفظ واختلاف المعنى، وهاهنا لم يتفق إلا جزء من اللفظ، وهو أقله، وأما اللزوم في الكلام المنثور فهو تساوي الحروف التي قبل الفواصل المسجوعة، وهذا هو كذلك، لأن العين والراء تساويا في البيت الأول في قوله الأشعار وعار الجيم والراء في البيت الثاني في قوله الأحجار وجار.
القسم السادس من المشبه بالتجنيس، وهو ما يساوي وزنه تركيبه غير أن حروفه تتقدم وتتأخر وذلك كقول أبي تمام:
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ** متونهن جلاء الشك والريب

فالصفائح والصحائف مما تقدمت حروفه وتأخرت.
وقد ورد في الكلام المنثور، كقوله في فضيلة تلاوة القرآن الكريم: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آيةٍ تقرأ» فقوله: «اقرأ وارق» من التجنيس المشار إليه في هذا القسم.